مع إطلالة فصل الربيع ، تبدأ التحضيرات بشكل كبير في العراق لإستقبال أعياد نوروز ورأس السنة الكردية الجديدة ، وتنشغل الأسواق بصورة عامة بهذه المناسبة ، إذ تزدهر حركتها تحضيرًا لإستقبالها.
ويُعتبر سوق الأقمشة والخياطة بنوعيها الرجالي والنسائي من الأسواق التي تستنفر أكثر من غيرها، لأن الجميع يريد إرتداء ملابس جديدة ومتميّزة والظهور بأجمل حلّة.
ويستذكر البغداديون عيد نوروز الذي كانوا يحتفلون به كل عام وله تسميات مختلفة كعيد الشجرة أو الدخول أو دورة السنة, ولهذه المناسبة طقوسها الخاصة التي يتحدث عنها عدد من المواطنين من أجيال مختلفة
يتميز هذا العيد، بميزتين نادرتين على المستوى العراقي, أولًا, أّنه من أقدم الاعياد العراقية على الاطلاق حيث ظل يحتفل به أسلافنا بصورة رسمية وشعبية منذ خمسة آلاف عام وحتى الآن، مع إختلاف التسميات والشكليات والتبريرات الدينية والشعبية, وثانيا، انه من اكثر الاعياد شمولية لجميع فئات الامة العراقية، من عرب وأكراد وتركمان وسريان وصابئة ويزيدية وفيلية، وغيرهم.. كل فئة تحتفل به، بتسمية معينة وحجة دينية وتاريخية مختلفة وخاصة بها، ولكن الجميع يحتفلون بهذه الفترة بانبثاق الخضرة والربيع وانتشار الخصب بمعانيه البيئية والروحية..
تاريخ عيد نوروز
ظلّ العراقيون يحتفلون بعيد الربيع في سومر وبابل وفي نينوى إلى حوالي ثلاثة آلاف عام حتى إنتشار المسيحية, "لقد سماه السومريون(زكموك) وفي بابل ونينوى(اجيتو - الحج) أي عيد رأس السنة".
ويبدأ العيد في أول يوم من السنة حسب التقويم العراقي الذي يعتبر يوم المنقلب الربيعي ويصادف الآن(21 آذار/مارس) بينما كان يعتبره العراقيون اليوم الأول من شهر(نيسان/أبريل) أي يوم ظهور نيشان وعلامة الربيع.
في هذا اليوم يتحرر(تموز/يونيو - إله الخصب الذكوري) من قبره في ظلمات الارض، ليظهر الى السطح ويخصب(عشتار) الهة الارض والأنوثة، فتنبثق الحياة ويظهر الربيع, كان الكاهن العراقي الأعظم يصلي للألة (مردوخ) ومعناه (مار وضوح ـ سيد الوضوح أي إله النور).
ويقوم الكهنة الآخرون بالطقوس الدينية الأخرى لأيام متتالية, ويستمر العيد لعشرة أيام وفي اليوم الأخير تتم تلاوة أسطورة الخليقة وتقدم الصلوات والقرابين في اليوم الخامس.
كما كان الملك يقدم تقريرًا عن إنجازاته في السنة المنصرمة، ويطلب من الإله مردوخ المغفرة لذنوبه وآثامه, وفي المساء يذبح ثور أبيض رمز الفحولة وليسقي دمه الأرض.
وفي اليوم السادس تنظم مسيرة ضخمة في شارع الموكب حيث يتم إحراق دمى ملونة بعد الإنتهاء من المراسيم الرسمية. وفي اليوم العاشر يتم الاعتراف بشرعية حكم الملك من قبل الإله مردوخ.
كانت المواكب التي تحمل تماثيل الآلهة تعود إلى بابل عبر الطرق البرية ولهذا أمر الملك نبوخذ نصر ببناء شارع الموكب الذي كان يمتد من دار العيد إلى باب عشتار.
أجواء الإحتفال
رغم الأجواء الأمنية غير المستقرة، والإضطرابات المناخية التي غطت بغداد بسحابة كثيفة من الأتربة إلا أن سكانها الذين يعانون قلة الفرح مع زيادة أيام الحزن!, يستعد ليخرج أغلبهم للإحتفال بعيد نوروز، كما يحدث في كل عام، حينها تكتظ المتنزهات فيها بالمحتفلين، لاسيما في متنزه الزوراء حيث تفترش العوائل البغدادية المساحات الخضر فيه وتحمل معها وجبة الغداء الذي تصدرته (صينية الدولمة)، بينما يركض الأطفال إلى اللهو بالصعود إلى الألعاب من دولاب الهوى والصحن الطائر والنفق المرعب وقطار الصغار, بينما يستعد آخرون للمغادرة إلى كردستان والتمتع بجمال المناظر.
المعلمة, أم احمد (40 سنة) ، تهُم بتأكيد حجزها إلى أربيل من أحد مكاتب السياحة، تقول: نوروز إستراحة للموظفين على وجه الخصوص، ولربة البيت التمرد على الروتين والخروج من البيت وهموم الطبخ والغاز والكهرباء المقطوعة.
أما قريبتها التي رافقتها إلى مكتب السياحة ، لم ترغب في السفر وتفضل أن تقضي المناسبة في بغداد، وتحتفل في الزوراء، وتقول حنان سعد : الأطفال أكثر المتشوقين للمناسبة، لأنهم يفتقرون إلى وسائل، مضيفةً : "أولادي دوما يصرون على زيارة متنزه الزوراء ومشاهدة الحيوانات وخاصة القرد الذي لا يمل الصغار من التطلع إلى وجهه، كما تعني زيارة الزوراء ركوب الألعاب وخاصة دولاب الهواء العالي جدا, وتتذكر حنان بعض المشاهد التي لا ترغب في أن تجدها هذه السنة في المتنزه، وهي كثرة تواجد المتسولين وتطالب المشرفين على الزوراء بمتابعتهم.
و يوضّح مسؤول متنزه الزوراء, المهندس جمال إستعدادات المتنزه لمناسبة أعياد نورزو بعد أن شاهدنا العمال يقومون بغسل الأشجار لإزالة آثار العواصف الترابية التي غطت بغداد بواسطة خراطيم الماء, ويشير إلى أن الاستعدادات تتلخص في تهيئة القواطع للباحثين عن المتعة في العيد مع زرع أشجار جديدة ولوحات للزهور، أما بالنسبة للألعاب التي تستهوي الصغار والشباب أيضاً فقد تم نصب العاب جديدة تسع 90 طفلا .
وقال علي صالح العزاوي (28عاما) وهو يرقص مع رفاقه على أغنام الدبكة الكردية في إحدى المرافق السياحية في بغداد ، والذي ينتمي للقومية العربية: "هنا تكمن أهمية عيد نوروز في الغاء جميع الفوارق القومية التي أراد الكثير من الساسة ترسيخها داخل المجتمع العراقي المتنوع بأطيافه ومذاهبه المتعددة".
وأضاف العزاوي أن آلاف الأسر العربية, توجهت من مختلف مناطق بغداد نحو جزيرة بغداد السياحية للاحتفال بأعياد نوروز، ومشاركة إخوانهم الاكراد، لأن هذا العيد مناسبة تجمع الجميع وتوحدهم وتجدد اللقاء.
و أشار عمر نادر الخالدي (34عاما) إلى أنه جاء برفقه أسرته من بلدته بهرز إلى بغداد ولقضاء وقت ممتع تحت اجواء الطبيعة الخلابة والهروب من ازمات الحياة اليومية ومصاعبها.
وأوضح الخالدي أن الأسر العربية موجودة بكثافة داخل المرفق السياحي وليس هناك أي شعور بالتفرقة أو التعامل غير الجيد، بل العكس فانك لا ترى سوى الإبتسامة والإحترام والترحاب لان نوروز يزرع في قلوب الجميع الطمأنينة ويرسم الفرح على وجوههم.
إلى ذلك قالت نوره دلسوز حمه, شابة كردية تبلغ من العمر (23عاما): "لا فرق بين العرب والأكراد، فكلنا نحتفل بأعياد نورزر معا لأنها مناسبة للفرح والسرور، مؤكدةً على أن نوروز لا يكون جميلًا إلّا إذا إجتمع الجميع ورقصوا على أغنام الدبكات الكردية والعربية معًا.
وتابعت "في نوروز: "لا نتحدث عن السياسة أو القوميات أو الأزمات بل ننشد الطرب والغناء، وهذا ما يهمنا بالوقت الحالي، نريد قسطا من الراحة من اجل أن نتفاءل بالغد، الذي نأمل أن يكون افضل".
و قال، الناشط السياسي الكردي، محمد القرة لوسي, وهو يرتدي الملابس التقليدية الكردية: "في نوروز ليس هناك مجال للحديث عن السياسة أو الازمات أو ما يجري في داخل المناطق المتنازع عليها، فهو بمثابة عطلة رسمية عن الهموم والمشاكل تمتد إلى عدة أيام من الفرح والبهجة والسرور".
واوضح القره لوسي وهو يشير إلى صديقه العربي إحسان الربيعي، أن نوروز مناسبة بتجدد فيها اللقاء بالأصدقاء من جميع الطوائف والقوميات ونسيان كل شيء والتمتع بجمال الربيع وحلاوة الأزهار والخضرة.
و افاد ، الباحث الاجتماعي, ظافر اللهيبي, انه يُنظّم كل عام سفرة لأسرته خلال اعياد نوروز إلى زيارة المرافق السياحية في أربيل التي تكون بأحلى صورها عندما تضيف الطبيعة جمالا خلابا على اغلب المرافق السياحية.
واضاف اللهيبي أن اعياد نوروز لها صفة مميزة في أربيل ،لذا كانت أفراحهم وأحزانهم صفة مشتركة بين الجميع حتى أصبح العرب أكثر إندفاعًا من الأكراد في الإحتفال بأعياد نوروز الكردية.
ووصف اللهيبي نوروز بأنه لم يعد مناسبة للأفراح وإطلاق العنان للرقص والبهجة، بل مناسبة للتوحد وإبعاد الضغائن عن القلوب بسبب ما أسماه التشدد السياسي ومصالح الاحزاب التي لا ترى وجود لها الا في ظل الفرقة والانقسام القومي بين العرب والأكراد على نحو خاص.
فيما وصف ناهد جعفر شاب كردي (24 عاما)، نوروز بأنّه يوم الحرية التي تعطي القوة للشباب العراقي على إختلاف قومياتهم، لرفض كل أنواع الإستبداد والظلم، وقال: "علينا أن نتعلم من كاوه الحداد، الشاب الكردي، الذي انتفض لأجل شعبه قبل 27 قرنا وقتل الحاكم الظالم لأنه كان ينشد الحرية".
أرسل تعليقك